ملخص كتاب الأذكياء لابن الجوزي: رحلة في عقول العظماء

ملخص كتاب الأذكياء لابن الجوزي: رحلة في عقول العظماء

مقدمة

يُعَدُّ العقل أجلّ موهبة وُهِبها الإنسان، فهو الأداة التي بها يعرف الخالق وتُضبط مصالح الحياة وتُدرَك غوامض الأمور
. بهذه الكلمات، يفتتح الإمام ابن الجوزي كتابه الفريد “الأذكياء”، جامعاً فيه أخبار من توقّدت أذهانهم وقويت فطنتهم، ليس فقط لمعرفة أقدارهم، بل لتكون قصصهم بمثابة اللقاح الذي يُخصب العقول، ويُهذّب من أعجب برأيه حين يسمع أخبار من تفوقوا عليه ذكاءً وفطنة

. فكما أن مجالسة العقلاء تزيد من لُبّ الإنسان، فإن سماع أخبارهم يقوم مقام رؤيتهم. يقدم الكتاب رحلة ممتعة عبر 33 باباً ، نستعرض هنا ملخصاً لأبوابه الأولى التي تضع الأساس لفهم قيمة الذكاء وأثره في حياة الأفراد والأمم.

في فضل العقل وماهيته

يحتل العقل مكانة سامية، فهو ليس مجرد صفة بشرية، بل هو معيار التفاضل في الدنيا والآخرة. وقد ورد في الأثر أن عبادة المرء تُقاس بعقله، وأن المرء لا يُعجَب بإسلامه حتى تُعرف “عقدة عقله”

. فالعقل هو أثقل شيء على الشيطان، ومكابدة مؤمن عاقل أشد عليه من مكابدة مائة جاهل يسهل استدراجهم. حتى إن الجزاء يوم القيامة لا يكون إلا على قدر العقول. وقد تباينت آراء العلماء في تعريف العقل وموقعه، فمنهم من قال إنه غريزة فطرية ، ومنهم من رآه نوراً يقذفه الله في القلب. وقد لخّص ابن الجوزي معانيه في أربعة أوجه: الصفة التي تفصل الإنسان عن البهائم، والعلم الفطري بالجائزات والمستحيلات، والعلوم المكتسبة من التجارب، والقدرة على قمع الشهوات. أما عن مكانه، فقد اختلفوا أيضاً؛ فذهب البعض، كأبي حنيفة، إلى أنه في الدماغ، بينما ذهب آخرون، كالشافعي، إلى أنه في القلب، مستدلين بقوله تعالى “فتكون لهم قلوب يعقلون بها”

الذهن والفهم والذكاء

يميز الكتاب بين هذه المصطلحات؛ فالذهن هو قوة النفس المستعدة لاكتساب المعرفة. والفهم هو جودة هذا الاستعداد. أما الذكاء، فهو جودة الحدس وسرعة الفهم التي تُمكّن الذكي من إدراك المعنى فور سماعه

علامات الذكاء

يستدل على عقل الإنسان من خلال قسمين: الأول هو الهيئة والصورة، حيث يدل اعتدال الخلقة وتناسب البنية على قوة العقل

. أما القسم الثاني، وهو الأهم، فيُستدل عليه بالأفعال والأقوال؛ فالصمت في موضعه، والسكون في هيئته، ومراقبة العواقب، وترك الشهوات العاجلة ذات العواقب الوخيمة، كلها من علامات العاقل

نوادر من فطنة الأنبياء والأمم السالفة

زخر صفحات الكتاب بأمثلة حيّة على الذكاء العملي، بدءاً من الأنبياء الذين فاقت فطنتهم كل البشر.

  • إبراهيم عليه السلام: حين غارت زوجته سارة وحلفت لتقطعنّ عضواً من أعضاء هاجر، احتال إبراهيم بحكمة، فأشار عليها أن تخفضها (تثقب أذنيها)، فتكون قد برّت بقسمها دون إيذاء شديد، وصارت تلك سُنّة للنساء من بعدها. وفي موقف آخر، أرسل لابنه إسماعيل رسالة مشفرة يخبره فيها أن “يغير عتبة بابه”، ففهم إسماعيل أن أباه يأمره بطلاق زوجته.
  • سليمان عليه السلام: في القصة الشهيرة للمرأتين اللتين اختصمتا على طفل، أمر سليمان بشق الغلام نصفين، فصرخت الأم الحقيقية رافضة، بينما قبلت الأخرى، فعرف سليمان الأم من رحمتها. وفي موقف آخر، أُتي بلص سرق أوز جاره، فنادى سليمان في الناس قائلاً: “أحدكم يسرق أوز جاره ثم يدخل المسجد والريش على رأسه”، فمسح رجل رأسه لا شعورياً، فأمر سليمان بالقبض عليه قائلاً: “خذوه فإنه صاحبكم”.
  • لقمان الحكيم: استطاع أن يخلّص سيده من ورطة عظيمة، حيث خسر سيده رهاناً يُلزمه بشرب ماء النهر كله. فأشار عليه لقمان أن يقول لخصمه: “أشرب ما بين ضفتي النهر، أم أشرب ما بين الضفتين والمد؟”، فلما اختار الخصم ما بين الضفتين، قال له: “فاحبس عني المد”، فعجز الخصم وربح السيد بفضل حيلة لقمان الذي نال حريته جزاءً لذكائه.
  • عمرو بن عامر الأزدي وسيل العرم: كان أول من تنبأ بانهيار سد مأرب حين رأى جرذاً ذا مخالب حديدية يحفر في أساسه. ولكي يبيع أملاكه ويخرج بقومه دون أن يثير هلعاً أو يُتهم بالجبن، دبر حيلة متقنة؛ حيث أمر ابنه الأصغر أن يلطمه أمام وجهاء القوم، ثم تظاهر بالغضب الشديد وحلف يميناً لا رجعة فيها بأنه لن يقيم في أرض لم يدافع أهلها عن كرامته، وباع كل ما يملك وخرج بقومه ناجياً قبل أن يأتي السيل ويدمر كل شيء.

دهاء النبي ﷺ وأصحابه وخلفاؤه

يخصص الكتاب فصولاً كاملة لفطنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتي كانت تظهر في المواقف العسكرية والاجتماعية والقضائية، معتمداً على الذكاء الفطري وليس على الوحي.

  • النبي محمد ﷺ: في غزوة بدر، استنتج عدد جيش قريش (ألف رجل) حين علم أنهم يذبحون عشر جِمال كل يوم، فقدّر أن كل جزور يكفي مئة رجل. كما استخدم أسلوب التورية في الحرب، فكان كثيراً ما يتجه بجيشه جهة ثم يغير مساره فجأة لمباغتة العدو. وفي غزوة الخندق، أرسل حذيفة بن اليمان وأمره أن يبث حديثاً يوقع الفرقة بين قريش وحلفائهم، قائلاً لكل طرف إن الآخر سيقدمكم للقتال أولاً ليكون القتل فيكم، مما أدى إلى تخاذلهم وهزيمتهم.
  • أبو بكر الصديق: في رحلة الهجرة، كان يرد على من يسأله عن هوية رفيقه (النبي ﷺ) بقوله: “هادٍ يهديني”، وهي إجابة ذات معنيين، ظاهرها دليل الطريق، وباطنها الهادي إلى سبيل الحق.
  • عمر بن الخطاب: عُرف بفراسته ودهائه. ذات مرة، أراد أن يتخلص من حُلّة رديئة، فطواها وجعلها تحته ولم يُظهر إلا طرفها، فدخل عليه الزبير بن العوام وسأله عنها بإلحاح، فاشترط عليه عمر أن يأخذها ولا يردها، فلما أخذها الزبير ووجد عيبها، لم يستطع إرجاعها. ومن لطيف فطنته أنه رأى ناراً ليلاً، فكره أن ينادي أهلها بـ”يا أهل النار”، فنادى: “يا أهل الضوء”.
  • علي بن أبي طالب: جاءته امرأة استودعها رجلان مائة دينار على ألا تدفعها لأحدهما دون الآخر. ثم جاء أحدهما وادعى موت صاحبه، فأخذ المال بالضغط عليها. ثم عاد الآخر يطالب بماله، فرفعهما عمر إلى علي، فقال علي للرجل: “مالك عندنا، فاذهب وجئ بصاحبك حتى ندفعها إليكما”، فبهت الرجل وعُرفت حيلتهما.
  • المغيرة بن شعبة: كان داهية العرب. أراد الزواج من امرأة خطبها معه شاب جميل، فعلم أن المرأة ستميل إلى الشاب. فأقبل على الشاب أمامها وقال له: “لقد أوتيت جمالاً، فهل عندك سوى ذلك؟”، فعدد الشاب محاسنه، ثم سأله المغيرة عن دقة حسابه للمال، فافتخر الشاب بأنه لا يفوته شيء. فقال المغيرة: “أما أنا، فأضع المال في زاوية البيت، فينفق أهلي منه ما يشاؤون ولا أعلم بنفاده حتى يسألوني غيره”، فقالت المرأة: “والله، لهذا الشيخ الذي لا يحاسبني أحب إليّ من هذا الذي يحصي عليّ مثقال الخردل”، وتزوجته.
  • عبد الملك بن مروان: أرسل عامر الشعبي في رسالة إلى ملك الروم. فأعجب الملك بذكاء الشعبي، وأرسل معه رقعة لعبد الملك كتب فيها: “عجبت من العرب كيف ملكت غير هذا (يقصد الشعبي)”. ففهم عبد الملك على الفور أن ملك الروم أراد أن يغريه بقتل رسوله الذكي حسداً، فقال للشعبي: “حسدني عليك فأراد أن يغريني بقتلك”

حيل الخلفاء وفراستهم

لم يكن ذكاء الخلفاء مقتصراً على إدارة الحروب والسياسات الكبرى، بل كان حاضراً في أدق تفاصيل حياتهم، من التعامل مع الشعراء إلى كشف الجرائم المعقدة. كانت الفراسة سلاحهم الذي يكشف الخبايا، وحيلتهم هي أداتهم للخروج من المواقف المحرجة ببراعة.

  • الخليفة المنصور: كان ذا دهاء عجيب. حين طلب منه الشاعر ابن هرمة أن يعفيه من حد السُّكْر، لم يستطع المنصور إبطال حد من حدود الله، لكنه احتال لذلك بحيلة ذكية؛ فقد أصدر أمراً بأن يُجلد من يأتي بالشاعر سكراناً مائة جلدة، بينما يُجلد الشاعر ثمانين فقط، فصار الناس يتجنبون الإبلاغ عنه. وفي حادثة أخرى، كشف عن سارق بأسلوب فريد؛ حيث أعطى رجلاً زجاجة عطر نادرة وقال له “تطيّب به فإنه يذهب همّك”، ثم أمر حرّاسه بالقبض على كل من تُشَم منه هذه الرائحة عند أبواب المدينة، فكان أن أعطت الزوجة الخائنة العطر لعشيقها الذي سرق المال، فقُبض عليه.
  • الخليفة المهدي: برع في استخدام الحيلة لفرض هيبته. فقد أهدى القاضي شريك بن عبد الله عوداً (آلة طرب) ليكسره، ثم استدرجه ليصدر حكماً بضمان الوكيل إذا أتلف شيئاً أُمر بإحضاره، ثم قال لخادمه: “أضمنه ما تلف بقضيته”، قاصداً العود الذي كسره القاضي بنفسه. وفي موقف آخر يدل على حكمته السياسية، قَبِل نعلًا قُدِّم له على أنه نعل النبي ﷺ وهو يعلم أنه ليس كذلك، وكافأ الرجل الذي أهداه بسخاء، ثم قال لجلسائه: “لو كذبناه لقال للناس أتيت أمير المؤمنين بنعل رسول الله فرده عليّ… فاشترينا لسانه وقبلنا هديته”.
  • الخليفة المعتضد بالله: كان يتمتع بفراسة وقوة ملاحظة خارقتين. لاحظ عاملاً أسود نشيطاً بشكل مبالغ فيه، فخطر له أنه إما لص أو أنه عثر على كنز. وبعد استجوابه، اعترف العامل بأنه قتل رجلاً وسرق هميانه المليء بالدنانير. وفي قضية أخرى، عُثر على كف امرأة مخضوبة في جراب في نهر دجلة، فأمر المعتضد بالبحث عن صانع الجراب، وتتبع الخيوط من صانع لآخر حتى وصل إلى عطار باعه لرجل من بني هاشم، والذي تبين أنه قتل جارية مغنية كان يهواها وقطع جسدها.

دهاء الوزراء ورجال الدولة

لم تكن فطنة رجال الدولة أقل من فطنة الخلفاء، فقد كانوا يستخدمون الحيلة والدبلوماسية لتسيير الأمور، وحفظ ماء وجه أسيادهم، وكشف المؤامرات بذكاء لافت.

  • يحيى بن خالد البرمكي: كان وزيراً داهية ، حين أتاه رجل يشكو ضيق الحال، دبر له حيلة ليكسب مالاً وفيراً؛ حيث أوهم رسل حكام مصر وفارس بأنه يرغب في شراء جارية الرجل، وأوعز للرجل ألا يبيعها بثمن بخس، فتنافس الرسل على شرائها بأسعار باهظة إرضاءً للوزير، وحصل الرجل على ثروة طائلة.
  • لطائف رجال البلاط: برع رجال البلاط في استخدام الكلمات الملطفة؛ فعندما سأل الخليفة هارون الرشيد وزيره الفضل بن الربيع عن حزمة خيزران، لم يقل الوزير “خيزران” لأنها اسم والدة الخليفة، بل قال: “عروق الرماح يا أمير المؤمنين”. كما أن الفتح بن خاقان عندما رأى شيئاً في لحية الخليفة المتوكل، لم يشر إليه مباشرة، بل نادى: “يا غلام، مرآة أمير المؤمنين”، ففهم الخليفة الإشارة وأزال ما بلحيته دون حرج.
  • عضد الدولة: اشتهر بحيله الذكية في تحقيق العدالة. عندما سرق تاجر موصوف بالخير عقد حاج ثمين، أمر عضد الدولة الحاج أن يجلس مقابل دكان التاجر صامتاً لثلاثة أيام. وفي اليوم الرابع، مر بموكبه العظيم وتوقف ليسلّم على الحاج وكأنه من خواصه، فخاف التاجر وأخرج العقد مدعياً أنه نسيه. ثم أمر عضد الدولة بصلب التاجر الخائن.
  • ذكاء الشرطة: من حيل رجال الشرطة، أن والياً كان يبحث عن لص، فمر بزقاق فقير ورأى على باب أحد دوره عظام سمكة كبيرة لا يقدر أهل الحي على ثمنها. فاستشعر أن وراء الأمر سراً، وبعد التحري، اكتشف أن الدار يسكنها لصوص، فقبض عليهم.

فطنة القضاة وعدلهم الذكي

استخدم القضاة فطنتهم ليس فقط في تطبيق النصوص، بل في فهم النوايا وكشف الحيل، فكان حكمهم مزيجاً من العلم والفراسة.

  • كعب بن سور وعمر بن الخطاب: أتت امرأة إلى عمر بن الخطاب تشتكي زوجها بكلام مبهم، قائلة إنه “يقوم الليل ويصوم النهار”، ففهم عمر أنه ثناء وأثنى عليه. لكن كعب بن سور فطن إلى أنها تشكو هجره لها في الفراش، فاستدعاه وحكم بينهما بأن للزوجة يوماً وليلة من كل أربعة أيام، قياساً على إباحة الزواج بأربع نساء. فأُعجب عمر بفهمه وحكمه وولاه قضاء البصرة.
  • شريح القاضي: كان يُضرب به المثل في الدهاء. أتته امرأة تبكي وتشتكي، فقال لمن بجانبه: “إن إخوة يوسف جاؤوا أباهم عشاءً يبكون”، في إشارة إلى أن الدموع لا تدل دائماً على صدق صاحبها. وفي حيلة أخرى، جاءه ثعلب يشغله عن صلاته، فصنع شريح هيئة رجل يصلي من ثيابه وعصاه، ثم باغَتَ الثعلب من خلفه وأمسك به

فطنة العلماء والفقهاء

لم يكن علم الفقهاء مجرد نصوص محفوظة، بل كان عقلاً متقداً قادراً على إيجاد الحلول للمشكلات المستعصية ببراعة قانونية ومنطقية مدهشة. كانت الفتوى الذكية تخرج المرء من أشد الأيمان تعقيداً، والحيلة الفقهية تكشف الحقائق بأبسط الطرق.

  • الإمام أبو حنيفة: كان بحراً في الفقه والحيلة. من عجائب فطنته أنه أشار على رجل أخذ اللصوص متاعه وأجبروه على الحلف بالطلاق ثلاثاً ألا يخبر أحداً، بأن يجمع كل المتهمين في مكان واحد، ثم يُعرض عليه واحداً تلو الآخر، فإن كان هو السارق فليسكت، وإن لم يكن فليقل “ليس هو”. وهكذا يستطيع الإشارة إلى السارق دون أن يتكلم فينتهك يمينه. كما أوجد حلاً لرجل كان ابنه يطلق كل امرأة يتزوجها، بأن يشتري الأب جارية لنفسه ثم يزوجها لابنه، فإذا طلقها الابن أو أعتقها، لا يقع طلاقه ولا عتقه لأنها ملك أبيه.
  • الإمام الشافعي: عُرف بذكائه اللغوي الدقيق. عندما زاره الربيع وهو مريض وقال له: “قوّى الله ضعفك”، نبهه الشافعي إلى خطورة دعائه، فلو قوى الله ضعفه على قوته لأهلكه، مما يدل على عمق فهمه لمعاني الألفاظ. وحلّ يمين رجل حلف “لآكلنّ هذه الثمرة أو لأرمين بها” بأن قال له: “كل نصفها وارم نصفها”.
  • أبو يوسف القاضي: أنقذ الخليفة هارون الرشيد من الحنث في يمين غليظ. فقد حلف الخليفة بالطلاق والعتاق والحج على جارية اتهمها بسرقة عقد إن لم تصدقه. فلقّن أبو يوسف الجارية أن تنكر أولاً، ثم تقر ثانياً، ثم تنكر ثالثاً عند سؤال الخليفة. وبذلك تكون قد “صدقت” في أحد أقوالها (الإقرار)، فيبر الخليفة في يمينه، سواء أكان إقرارها حقيقياً أم لا.
  • ابن عقيل: من أروع أمثلة الفتوى الذكية، أنه جاءه رجل مصاب بوسواس قهري شديد في الطهارة، يشكو من أنه يغتسل في النهر مراراً ولا يتيقن أنه تطهر. فقال له ابن عقيل بحدة: “اذهب فلا صلاة عليك”، وعندما استغرب الناس، أوضح أن من يفعل ذلك ولا يزال يشك في طهارته هو في حكم المجنون، والمجنون مرفوع عنه القلم

حكمة الزهاد وفراسة العرب

يتجلى الذكاء أيضاً في صفاء بصيرة الزهاد، والفراسة الفطرية لدى أهل البادية الذين امتلكوا قدرة مذهلة على الاستنتاج والتحليل من أبسط المشاهدات، بالإضافة إلى براعتهم في استخدام الكلام المبطن (المعاريض).

  • ذو النون المصري: أراد أحد تلاميذه أن يعلمه اسم الله الأعظم، فاختبره ذو النون أولاً بأن أرسله بطبق مغطى إلى صديق له. لكن التلميذ غلبه الفضول وفتح الطبق، فقفزت منه فأرة. فلما عاد، قال له ذو النون: “يا أحمق، ائتمنتك على فأرة فخنتني، أفأئتمنك على اسم الله الأعظم؟ اذهب عني”.
  • فراسة أبناء نزار: في قصة عربية شهيرة، استطاع أبناء نزار الأربعة وصف بعير ضائع لم يروه قط وصفاً دقيقاً (أعور، أزور، أبتر، شرود) فقط من خلال ملاحظة آثار رعْيه وروثه في الطريق. وفي نفس الرحلة، استنتجوا أن الخمر التي شربوها كانت من كرمة زُرعت على قبر، وأن اللحم الذي أكلوه كان لشاة رضعت من كلبة، وأن مضيفهم ليس ابنًا شرعيًا لأبيه، وكل ذلك من خلال ملاحظات دقيقة أثبت المضيف صحتها لاحقًا.
  • الأسير صاحب الرسالة المشفرة: أُسر رجل من بني العنبر، فطلب أن يرسل رسولاً إلى أهله ليفدوه، فاشترط عليه آسروه ألا يكلمه إلا بحضرتهم. فقال للرسول أمامهم كلامًا ظاهره عادي وباطنه تحذير: “قل لقومي إن الشجر قد أورق (أي تسلحوا)، وإن النساء قد اشتكت (أي أعدّوا القِرَب للغزو)، وإن هذا الليل (أي سيأتونكم ليلاً)”، وأكمل رسالته برموز فهمها قومه فارتحلوا ونجوا.

نوادر من دهاء العامة والمحتالين

يورد الكتاب قصصاً طريفة تبيّن أن الحيلة والذكاء ليسا حكراً على أهل العلم والسلطة، بل هما سلاح يستخدمه الجميع، بمن فيهم اللصوص والمحتالون، وفي كثير من الأحيان ببراعة تفوق الوصف.

  • حيلة انقلبت على صاحبها: حاول الخليفة معاوية، الذي أرقته أجراس الكنائس، أن يدبر مكيدة لملك الروم ليجد ذريعة لقتل النصارى في بلاده. فأرسل رجلاً وأمره بفعل حركة غير لائقة في حضرة الملك، متوقعاً أن يقتله الملك فينتقم معاوية. لكن ملك الروم كان أدهى منه، ففهم الحيلة وأكرم الرسول وأعاده سالماً، قائلاً: “ليرجعنّ إليه على خلاف ما ظن”.
  • اللص الفقيه: اعترض لص طريق رجل عالم، وعندما طلب منه خلع ثيابه، بدأ الرجل يجادل. فما كان من اللص إلا أن استخدم الفقه ضده، ورد على كل حجة بحجة، مستشهداً بأقوال الإمام مالك، حتى أفحم الرجل. وختم اللص كلامه بأنه يرفض أخذ الثياب “نِسيئة” (على سبيل الدين) لأنه لا يريد أن يبتدع في الإسلام بدعة لم يفعلها لص قبله!.
  • المحتالان والحمار: سرق محتالان حماراً، فذهب أحدهما ليبيعه. فخدعه مشترٍ وأخذ منه الحمار مقابل طبق سمك. فعاد إلى شريكه وسأله: “بكم بعت الحمار؟”، فأجاب: “برأس ماله”، أي بنفس الثمن الذي اشتريناه به (وهو لا شيء)، وأشار إلى طبق السمك قائلاً: “وهذا ربحنا”.
  • العجوز واللص: تسلل لص إلى بيت عجوز صالحة، واختبأ ليلاً ليسرق كيس نقود ابنها. طالت صلاة العجوز، فخشي اللص أن يدركه الصباح، فادعى أنه “جبريل رسول رب العالمين” جاء ليأخذ الكيس تأديباً لابنها الفاسق. فطنّت العجوز للحيلة، وتظاهرت بالخوف وفتحت له باب الغرفة التي فيها الكيس، وما إن دخل اللص ليأخذه حتى أغلقت الباب عليه وأقفلته، وقالت له ببرود: “يا جبريل، ما يعوزك أن تخرج من السقف أو تخرق الحائط بريشة من جناحك”، وتركته محبوساً حتى أتى ابنها والشرطة في الصباح.

حين تنقلب الحيلة على صاحبها

الذكاء سلاح ذو حدين، فالحيلة التي لا تُحكم خطتها قد تؤدي إلى الهلاك بدلاً من النجاة. يروي ابن الجوزي قصصاً لمن حاولوا استخدام المكر فكانوا هم أول ضحاياه.

  • بلال بن أبي بردة: كان مسجوناً لدى الحجاج بن يوسف، فدفع رشوة للسجان قدرها عشرة آلاف درهم ليُدرج اسمه في قائمة الموتى ويهرّبه. لكن الحجاج، لشدة شكوكه، أمر بألا يُسلّم الجسد لأهله حتى يراه بنفسه. فوقع السجان في ورطة، وخوفاً من أن يقتله الحجاج، اضطر إلى قتل بلال خنقاً ليقدمه جثة حقيقية. وهكذا، اشترى بلال مقتله بعشرة آلاف درهم.
  • الراهب القاتل: استدرج راهب مسافراً إلى حصنه، ثم دبر له حيلة ليسقط في حفرة عميقة بهدف سرقة أمواله. نجا المسافر بأعجوبة، واختبأ خارج الحصن. وعندما خرج الراهب ليبحث عن جثته، تسلل المسافر إلى الحصن وأغلق الباب، ثم قتل الراهب عند عودته واستولى على كنوزه التي جمعها من ضحايا سابقين.
  • الزوجة الخائنة وشجرة النخيل: طلبت امرأة من عشيقها أن تحتال حتى يكون معها بحضور زوجها. فصعدت نخلة في دارها ثم صرخت في زوجها الذي كان بالأسفل: “من هذه المرأة التي معك؟!”، فأنكر الزوج. نزلت المرأة غاضبة، وقالت له: “اصعد أنت لترى بنفسك”. وما إن صعد الزوج، حتى استدعت عشيقها. وعندما رآهما الزوج من أعلى النخلة وبدأ بالصياح، قالت له بهدوء: “لا عليك، يبدو أن كل من يصعد هذه النخلة يرى مثل هذه الأشياء”

الحيلة سبيلاً للنجاة

على النقيض من ذلك، يُظهر ابن الجوزي كيف كان الذكاء طوق نجاة للكثيرين، حيث مكنتهم الكلمة الذكية أو الحيلة المتقنة من الخروج من مواقف الموت المحقق.

  • خالد بن صفوان وأم سلمة: أثنى خالد أمام الخليفة السفاح على جمال الجواري، مما أغضب زوجة الخليفة أم سلمة التي أمرت بضربه. استدعاه الخليفة مرة أخرى وطلب منه تكرار ما قاله، وكانت أم سلمة تستمع من خلف ستار. فطن خالد للمكيدة، فعكس كلامه تماماً وبدأ يذم تعدد الزوجات، قائلاً إن “الضرتين من الضرر”، وإن “ثلاث نساء كأنهن قدر يغلي”، و”أربع نساء شر مجموع”. فضحكت أم سلمة من خلف الستر وعفت عنه، بل وكافأته على حسن تخلصه.
  • الرجل المشؤوم وعبد الملك: قُدّم رجل إلى الخليفة عبد الملك بن مروان ليُقتل لأنه كان مع الخوارج. فقال الرجل للخليفة: “لا تقتلني، فإني رجل مشؤوم، وما كنت مع قوم قط إلا هُزموا، ووجودي مع أعدائك كان خيراً لك من مائة ألف مقاتل معك”. فضحك الخليفة من فطنته وأطلق سراحه.
  • نسيب وزوجتاه: كان الشاعر نسيب متزوجاً من امرأتين، فأراد أن يُرضي كلتيهما. أعطى كل واحدة منهما ديناراً سراً، ثم دبر مع صديق له أن يأتي ويسأله أمام الزوجتين: “أيهما أحب إليك؟”. بعد تمنّع، أجاب نسيب: “أحبهما إليّ صاحبة الدينار”، ففرحت كل واحدة منهما وظنت أنها المقصودة.

فن المعاريض والجواب المسكت

يبرع العرب في استخدام “المعاريض”، وهو فن الكلام غير المباشر الذي يحمل أكثر من معنى، كوسيلة للفكاهة أو للنجاة من مواقف محرجة. كما اشتهروا بالجواب المسكت الذي يقطع الطريق على الخصم.

  • طرائف نبوية: استخدم النبي ﷺ المعاريض بلطف. فقال لعجوز إن “الجنة لا تدخلها العجائز” ليمازحها، ثم أوضح لها أن الله سيعيدهن شابات أبكاراً. وقال لامرأة إن زوجها “الذي في عينيه بياض”، ففزعت حتى أوضح لها زوجها أن عين كل إنسان فيها بياض.
  • النجاة من الاضطهاد: في زمن المحن السياسية، كان الذكاء اللغوي وسيلة للنجاة. فعندما طُلب من أحدهم أن يلعن علياً، قال: “إن الأمير أمرني أن ألعن علياً، فالعنوه لعنه الله”، فجعل الضمير مبهماً. وعندما طُلب من الحارث بن مسكين أيام محنة خلق القرآن أن يشهد أن القرآن مخلوق، بسط أصابعه الأربع وقال: “أشهد أن التوراة والإنجيل والزبور والفرقان (وأشار إلى أصابعه) مخلوقة”، قاصداً أصابعه لا الكتب، فنجا.
  • الجواب المفحم: كان الرد السريع قاطعاً للجدل. سأل يهودي الإمام علي بن أبي طالب مستهزئاً: “ما دفنتم نبيكم حتى قلتم منا أمير ومنكم أمير”، فرد عليه علي فوراً: “وأنتم ما جفت أقدامكم من البحر حتى قلتم اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة”. وسأل رجل شاباً في مجلس الشعبي: “هل سمعت كل العلم؟” قال: “لا”، قال: “فشطره؟” قال: “لا”، قال الشاب: “فاجعل هذا في الشطر الذي لم تسمعه”، فأفحم الشعبي.

عندما يغلب العوام الرؤساء

يختتم هذا الجزء بقصص طريفة تُثبت أن الذكاء ليس حكراً على أهل الشأن، وأن البديهة الحاضرة لدى عامة الناس قد تفحم أكبر العلماء والأدباء.

  • الجاحظ والرجل القصير: سخر الأديب الكبير الجاحظ من رجل قصير بدين ذي لحية طويلة، فنظم فيه بيتاً من الشعر. فرد عليه الرجل على الفور ببيت شعر أشد سخرية، شبه فيه الجاحظ بحشرة صغيرة في ذيل كبش. فاعترف الجاحظ بأنه غُلب.
  • الجاحظ والمرأة: كان الجاحظ يركب حمارة، فأطلقت صوتاً. فعلقت امرأة على الموقف، فرد عليها الجاحظ بفظاظة: “ما حملتني أنثى قط إلا فعلت ذلك”. فأجابت المرأة لصديقتها فوراً: “كانت أم هذا منه تسعة أشهر على جهد جهيد”، فأسكتت الجاحظ تماماً.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

WhatsApp
Copy link
URL has been copied successfully!