مقدمة
ذكر سبحانه وتعالى حاصل أحداث هذه القصة في موضع واحد من كتابه الكريم، وهو قوله تعالى: {واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين} (المائدة:27-31).
تحليل أحداث القصة
جاءت هذه الآيات عقيب حديث طويل عن رذائل قوم موسى عليه السلام، الذين خالفوا نبيهم، وامتنعوا عن طاعته، والاهتداء بهديه، وقالوا له بكل صلافة وسوء أدب: {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون} (المائدة:24). فساق القرآن عقيب ذلك قصة قابيل وهابيل؛ تخفيفاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من قومه، وتبياناً أن الذين عصوا أنبياءهم، واعتدوا عليهم، قد اقتفوا الطريق الذي سلكه قابيل الظالم في عدوانه على أخيه هابيل المظلوم.
ومجريات القصة تفيد أن كلاًّ من قابيل وهابيل قدَّم صدقة قربة إلى الله سبحانه، فتقبل الله صدقة هابيل؛ لصدقه وإخلاصه، ولم يتقبل صدقة قابيل؛ لسوء نيته، وعدم تقواه، فقال قابيل -على سبيل الحسد- لأخيه هابيل: {لأقتلنك}، بسبب قبول صدقتك، ورفض قبول صدقتي، فكان رد هابيل على أخيه: {إنما يتقبل الله من المتقين}، فكان ردُّ هابيل لأخيه قابيل ردًّا فيه نصح وإرشاد؛ حيث بيَّن له الوسيلة التي تجعل صدقته مقبولة عند الله، ألا وهي التقوى، وصيانة النفس عن كل ما لا يرضاه الله سبحانه.
ثم إن هابيل -الأخ الناصح العاقل- انتقل من حال وعظ أخيه بتطهير قلبه من الحسد، إلى تذكيره بما تقتضيه رابطة الأخوة من تسامح، وما تستدعيه لحمة النسب من بر، فقال لأخيه: {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين}، فأخبره أنه إن اعتدى عليه بالقتل ظلماً وحسداً، فإنه لن يقابله بالفعل نفسه؛ خوفاً من الله، وكراهية أن يراه سبحانه قاتلاً لأخيه؛ إذ القتل جريمة نكراء شنعاء، ولا سيما إذا كانت من أخ لأخيه!
ثم انتقل هابيل إلى أسلوب آخر في وعظ أخيه وإرشاده؛ إذ أخذ يحذره من سوء المصير إن هو أقبل على تنفيذ فعلته السوداء الهوجاء {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين}. بيد أن قابيل لم يرعوِ لنصائح أخيه، وضرب بها عُرْض الحائط، ثم انساق مع هوى نفسه، وزينت له نفسه الإقدام على تلك الفعلة الشنعاء، فارتكب جريمته النكراء، فقتل أخاه حسداً وظلماً، فخسر دنياه وأخراه، خسر دنياه؛ لأنه قتل أخاه أقرب الناس إليه رحماً، والأخ سند لأخيه وعون له، وخسر أخراه؛ لأنه ارتكب جريمة من أبشع الجرائم وأفظعها.
على أن قابيل القاتل لم يكتف بفعل تلك الجريمة البشعة، بل ترك أخاه ملقى في العراء، معرضاً للهوام والوحوش، ما يدل على قساوة قلبه، وشنيع فعله، بيد أن الله سبحانه لا ينسى عباده الصالحين، فهو يرعاهم بعنايته ورعايته، ويكلؤهم بحفظه وحمايته، فقد بعث غراباً يحفر في الأرض حفرة ليدفن تلك الجثة الهامدة التي لا حول لها ولا قوة من البشر، فلما رأى قابيل -القاتل الظالم- ذلك المشهد، تحركت فيه عواطف الإنسانية، وأخذ يلوم نفسه على ما أقدم عليه، وعاتب نفسه كيف يكون هذا الغراب -وهو من أخس أنواع الطيور- أهدى منه سبيلاً، فعض أصابع الندامة، وندم ندماً شديداً، ولات ساعة مندم.
نقل المفسرون عدة روايات تتحدث عن طريقة القتل التي قُتل فيها هابيل، فذكر بعضهم أنه قتل بصخرة، وذكر آخرون أنه قتل بحديدة، وذُكر غير ذلك، وكل تلك الأقوال لا طائل منها، ولا ينبغي الوقوف عندها؛ لأن الآية ساكتة عن كل ذلك، وليس من مقصودها، ناهيك عن ضعف سند أغلب تلك الروايات الواردة في هذا الخصوص. وقد قال الطبري معقِّباً عن ما نقله من تلك الأقوال ما حاصله: وأولى الأقوال بالصواب أن يقال: إن الله عز وجل قد أخبر عن القاتل أنه قتل أخاه، ولا خبر عندنا يقطع العذر بصفة قتله إياه. وجائز أن يكون قتله على هذا النحو أو ذاك، والله أعلم أي ذلك كان. غير أن القتل قد كان لا شك فيه.
كيف استمر نسل البشر بعد موت هابيل؟
ليس في الكتاب والسنة ما يدل على أن ذرية آدم عليه السلام كانت محصورة في قابيل وهابيل ، بل ينقل العلماء أنه قد ولد لآدم عليه السلام أولاد كثيرون ، ومنهم تناسل البشر ، وهو الذي يدل عليه ظاهر القرآن ، وذلك في قول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) النساء/1 .
قال ابن جرير الطبري رحمه الله :
“ذُكر أن حواء ولدت لآدم عليه السلام عشرين ومائة بطن ، أولهم قابيل وتوأمته قليما ، وآخرهم عبد المغيث وتوأمته أمة المغيث . وأما ابن إسحاق فذُكر عنه أن جميع ما ولدته حواء لآدم لصلبه أربعون من ذكر وأنثى في عشرين بطنا ، وقال : قد بلغنا أسماء بعضهم ولم يبلغنا بعض” انتهى .
“تاريخ الأمم والملوك” (1/98) .
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله :
“وقد ذكر أهل التاريخ أن آدم عليه السلام لم يمت حتى رأى من ذريته – من أولاده وأولاد أولاده – أربعمائة ألف نسمة ، والله أعلم” انتهى .
“البداية والنهاية” (1/96) .
ومع ذلك يذكر محمد بن إسحاق – وهو من العلماء بالأنساب والتاريخ – أن أنساب البشر كلهم ترجع إلى شيث بن آدم ، وأن نسل ولد آدم من غير شيث كلهم بادوا وانقرضوا ، وهذا في الغالب مأخوذ عن أهل الكتاب .
قال ابن جرير الطبري رحمه الله :
“وإلى شيث أنساب بني آدم كلهم اليوم ، وذلك أن نسل سائر ولد آدم غير نسل شيث انقرضوا وبادوا ، فلم يبق منهم أحد ، فأنساب الناس كلهم اليوم إلى شيث عليه السلام” انتهى .
“تاريخ الأمم والملوك” (1/103) ، وانظر: “التبصرة” لابن الجوزي (1/24،36) ، “البداية والنهاية” (1/98) .
ثانيا :
أما المدة بين آدم ونوح عليهما الصلاة والسلام فقد ورد النص عليها في حديث يصححه بعض أهل العلم :
عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلا قال : (يا رسول الله ! أنبيٌّ كان آدم ؟ قال : نعم ، مكلَّم . قال : فكم كان بينه وبين نوح ؟ قال : عشرة قرون) .
رواه ابن حبان في “صحيحه” (14/69) والحاكم في “المستدرك” (2/262) وقال : صحيح على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي . وقال ابن كثير في “البداية والنهاية” (1/94) : هذا على شرط مسلم ولم يخرجه . وصححه الألباني في “السلسلة الصحيحة” (2668 ، 3289) .
قوم قابيل
لا يوجد في القرآن الكريم ولا في الأحاديث الصحيحة المرفوعة إلى النبي ﷺ ما يثبت أن قوم قابيل كانوا يرقصون أو يستعملون المعازف بشكل مباشر. النصوص الوحيية لم تتطرق إلى تفاصيل حياتهم الاجتماعية أو عاداتهم الترفيهية بهذا الشكل.
لكن بعض المصادر التاريخية والتفسيرية ذكرت إشارات تتعلق بهذا الموضوع، أغلبها من روايات الإسرائيليات (أي الأخبار المأخوذة عن أهل الكتاب أو من رواة غير مسندين). فقد ورد في بعض التفاسير مثل تفسير ابن كثير وغيره أن من ذرية قابيل كان أول من ابتدع اللهو بالمعازف والرقص، وأنهم سكنوا في أرض تسمى “أرض Nod” أو “أرض عدن”، وهناك ظهرت أدوات العزف والآلات، مثلما نُقل عن “توبال قابيل” و”يوبال” أنهم أول من صنعوا المعازف والمزامير. هذه الأخبار مروية عن كتب بني إسرائيل، وليست ثابتة بالنصوص الإسلامية القطعية.
إذن نستطيع القول:
موقف العلماء: كثير من أهل العلم مثل ابن كثير والطبري وغيرهما نقلوا هذه الروايات للتفسير والبيان دون الجزم بصحتها.
الثابت شرعًا: لا يوجد دليل صحيح في الإسلام على أن قوم قابيل كانوا يرقصون ويعملون بالمعازف.
المنقول تاريخيًا (بعض المفسرين): نسبت بعض الأخبار القديمة إليهم أنهم أول من أحدث اللهو بالمعازف والرقص، لكنها أخبار غير موثقة إسلاميًا وتندرج تحت الإسرائيليات.
قوم شيث
شيث هو ابن آدم عليه السلام الذي وُلد بعد مقتل هابيل، وقد روي أنه ورث النبوّة بعد أبيه آدم. أكثر الروايات التاريخية والآثار تقول إن شيثًا وأبناءه كانوا على الطاعة والعبادة والتقوى، بخلاف ذرية قابيل الذين نُسب إليهم الابتداع في اللهو والمعازف.
📌 في بعض المصادر التفسيرية والتاريخية:
- ذُكر أن آدم أوصى شيثًا بأن يقيم العدل ويستمر في عبادة الله ويبعد قومه عن ذرية قابيل.
- ورد أن قوم شيث كانوا يسكنون في الجبال، وكانوا أهل عبادة وزهد.
- أما قوم قابيل فكانوا يسكنون في السهول والأودية، وهم أول من أحدث المعازف والزينة والتبرج.
- جاء في “تفسير ابن كثير” و”قصص الأنبياء” أن النساء من ذرية قابيل أحدثن التبرج والموسيقى، وأن رجال شيث كانوا على الاستقامة، لكن مع الزمن فُتن بعضهم بما عند بني قابيل ونزلوا إليهم، فاختلطوا بهم، فبدأت المعاصي تنتشر.
مصادر
- تفسير ابن كثير
- كتاب: تفسير القرآن العظيم
- الموضع: تفسير سورة المائدة (آية 27 وما بعدها) عند ذكر قصة ابني آدم
- تجد فيه نقلًا عن أن أول من أحدث المعازف والنساء والتبرج هم من ذرية قابيل.
- قصص الأنبياء – لابن كثير
- الباب: قصة شيث عليه السلام بعد قصة هابيل وقابيل.
- يذكر أن شيثًا كان نبيًّا، وأن قومه كانوا في الجبال على الطاعة، بخلاف قوم قابيل في السهول حيث أحدثوا الملاهي.
- تاريخ الطبري – تاريخ الرسل والملوك
- الجزء الأول، عند ذكر أخبار آدم وذريته.
- ينقل عن بعض أهل الكتاب أن “يوبال” و”توبال قابيل” أول من صنعا المعازف وآلات اللهو.
ملاحظات مهمة:
- القرآن والسنة الصحيحة: لا يوجد فيهما نص صريح يثبت أن قوم قابيل كانوا يرقصون ويستعملون المعازف.
- المرويات: معظم ما نقل عن المعازف والرقص منسوب إلى الإسرائيليات، وقد جرت عادة ابن كثير والطبري وغيرهما على رواية هذه الأخبار مع التنبيه أنها ليست نصًا شرعيًا.
- موقف العلماء: يجوز ذكر هذه الروايات للاستئناس فقط، لا للاعتماد عليها كعقيدة.